الأسلوب العلمي وقواعده في البحث
د. زاهر زكار
المعرفة وتطور أساليب البحث:
لا شك أن الإنسان المعاصر يختلف اختلافا بينا في أسلوب حياته،وفيما لديه من إمكانات معيشية،عن ذلك الإنسان الذي عاش في الماضي السحيق،فقد تغير الإنسان المعاصر تغيرا جوهريا في أسلوب حياته ووسائله الحياتية،ولم يكتف بمجرد التكي لعوامل البيئة من حوله كبقية الكائنات الحية بل حاول دائما(الإنسان)أن يسيطر عليها ويخضعها له،،واعتمد الإنسان على استعداداته وقدرته على التعلم،فهو قادر على التذكر،وهذا المقدرة ساعدته على الاستفادة من خبرات الماضي في تكوين حاضره وبناء مستقبله،وهو قادر على التخيل مما مكنه من اختيار أهدافه وتخيل الاحتمالات الممكنة لتحقيقها،وله قدرة كبيرة على التفكير تمكنه من الاستفادة مما حصل عليه من معرفة.
لقد استطاع الانسان أن ينمي وسيلة فعالة للتفاهم مع أفراد جنسه،وهذه الوسيلة هي اللغة برموزها التي ساعدت الإنسان على مشاركة خبرات غيره والاستفادة منها،والاحتفاظ بتاريخه الفكري بنقله من جيل إلى جيل،ويضيف له وينميه ويستفيد منه تطبيقا في تغير حياته والتحكم في سير التطور،وما التقدم الحضاري الهائل الذي يشهده العالم(الآن) إلا ثمرة جهود الفكر الإنساني منذ القدم.
إن تاريخ الفكر الإنساني تاريخ طويل كان يربطه دائما خيط مستمر،ذلك هو هدف المعرفة، والمعرفة الإنسانية شهدت التنوع والتخصص وسارت مع أبعاد الزمن الثلاثة (الماضي،الحاضر،المستقبل)وقد أخرجتها العبقريات البشرية متأثرة بروح العصر،وبنوع
البيئة الحضارية التي وجدت فيها.
والمعرفة في أي اتجاه من الاتجاهات وفي أي ميدان من الميادين،كانت تعبر عن محاولات الإنسان لفهم الكون والرغبة في المعرفة تمثل دافعا أصلا في الإنسان، جعله يبحث عن وسائل تمكنه من اشباع هذا الدافع وتحقيقه،وكان دائما يغير من هذه الوسائل ويجدد فيها كلما شعر بأنها ما زالت عاجزة عن تحقيق المعرفة التي يريدها.
لقد حمل العرب شعلة الحضارة الفكرية للإنسان، فكان لهم الفضل في وضع الفكر الإنساني في مساره الصحيح على طريق الاسلوب العلمي في البحث،فالفكر العربي في جوهره،فكر تجريبي تجاور حدود المنطق الصوري،حيث اهتم العلماء العرب بالملاحظة والتجريب بجانب التأمل العقلي،كما اهتموا بالتحديد الكمي،واستعانوا بالأدوات العلمية في القياس، ولا يستطيع الدارس للنهضة العلمية العربية أن يغفل اهتمام العرب بالتجارب للوصول إلى المعرفة،ولذلك نجدهم نبغوا في العلوم التي تعتمد على الاستقراء وعلى اختبار الحقائق اختبارا تجريبيا،مثل الفلك والطبيعة والكيمياء وغيرها،وباختصار يمكن القول أن العلماء العرب كان لهم دورا مميزا في إرساء قواعد الاسلوب العلمي في البحث.
وإذا نظرنا إلى الغرب نجد أنه في عصر النهضة استفاد كثيرا من التراث العربي العلمي،وبدأ في التحرر التدريجي من أغلال الفكر اليوناني الذي ظل المفكرون لفترة طويلة يسيرون داخل دائرة أسلوب أرسطو الذي قدم قواعد المنهج القياسي،وعرفه بالاستدلال الذي يبدأ بمسلمات وينتهي بنتائج يختلف عنها في الاذهان إلى أهمية الملاحظة والمعلومات الاختبارية في دراسة الظواهر صورتها وشكلها،وكان روجر بيكون من أول الدعاة للبحث عن المعرفة من مصادرها الاصلية،والأخذ بالمعلومات الاختبارية،ومنذ ذلك الوقت بدأت النظرة العلمية والاسلوب العلمي يجد طريقه إلى الفكر الغربي.
كما كان فرانسيس بيكون أول من وضع أسس التفكير العلمي في أوروبا في العصر الحديث، فقد ألف كتابا في قواعد المنهج التجريبي وخطواته.
ومع بداية القرن العشرين،كانت الصورة قد اكتملت وظهرت معالم الاسلوب العلمي كاطار عام يلف مناهج البحث المختلفة وطرائقه،وقد أدى اتساع المعرفة الإنسانية وتشعبها إلى تنوع ميادين البحث،ومن ثم تنوع طرائقه بما يتوافق وطبيعة المعرفة المواد الوصول إليها، ولكنها جميعا تخضع لنموذج فكري علمي متميز المعالم ومحدد الاتجاه وهو ما يشار إليه بالتفكير العلمي(Reflective thinking )ويقصد بأسلوب التفكير العلمي،ذلك الذي يسير وفقا لتنظيم عقلي معين يقوم على عدد من الخطوات التي يسترشد بها الباحث في دراسته،وقد حلل"جون ديوي"هذا النمط من التفكير على النحو التالي:
"يستهل التفكير بادراك صعوبة أو مشكلة عادة ما تكون بمثابة الحافز،ويتبع ذلك انبثاق حل مقترح في الذهن الواعي،وهنا فقط يظهر العقل على المسرح ليفحص الفكرة،ثم ينبذها أو يقبلها إذا نبذت،يعود الذهن إلى المرحلة السابقة،وتتكرر العملية،والأمر الهام الذي ينبغي إدراكه هو استحضار حل ليس عملا إراديا متعمدا،بل هو في الواقع شيء يطرأ علينا أكثر من شيء نقوم به"
الاسلوب العلمي…وخطواته المنهجية:
يتخطى الهدف الرئيسي لاي بحث علمي مجرد وصف المشكلة أو الظاهرة موضوع البحث الذي فهمها وتفسيرها،وذلك بالتعرف على مكانها من الاطار الكلي للعلاقات المنظمة التي تنتمي إليها،وصياغة التعميمات التي تفسر الظواهر المختلفة،هي من أهم أهداف العلم، وخاصة تلك التي تصل إلى درجة من الشمول ترفعها إلى مرتبة القوانين العلمية والنظريات.
إن تفسير الظواهر المختلفة تزداد قيمته العلمية إذا ساعد الإنسان على التنبؤ،ولا يقصد بالتنبؤ هنا التخمين الغيبي أو معرفة المستقبل،ولكن يقصد به القدرة على توقع ما قد يحدث إذا سارت الأمور سيرا معينا،وهنا يتضمن التوقع معنى الاحتمال القوي.
كما أن أقصى أهداف العلم والبحث العلمي هو امكانية"الضبط"وهو ليس ممكنا في جميع الحالات،فمثلا في دراسة ظاهرة الخسوف يتطلب الأمر وصف الظاهرة،ومعرفة العوامل المؤدية إليها وتفسيرها،وهذا يمكن من التنبؤ باحتمال وقوع الخسوف،إذا توصلنا إلى معرفة علمية دقيقة له،ولكن لا يمكن ضبطه أو التحكم فيه،لأن عملية الضبط في مثل هذا المجال تتطلب التحكم في المدارات الفلكية،وهذا يخرج عن نطاق قدرة أي عالم،مهما بلغ من العلم والمعرفة أو الدقة في البحث،ولكن في المقابل هناك بعض الظواهر التي يمكن ضبطها والتحكم فيها بدرجة معقولة،ومثال ذلك،القدرة على محاربة بعض الظواهر الاجتماعية،مثل جنوح الأحداث أو السرقة أو التغلب على الاضطرابات الاجتماعية التي تضعف البناء الاجتماعي.
وتعتمد جميع العلوم في تحقيق الأهداف الثلاثة،المشار إليها سابقا(التفسير التنبؤ،الضبط)على الأسلوب العلمي،وذلك لأنه يتميز بالدقة والموضوعية واختبار الحقائق اختبارا يزيل عنها كل شك مقبول،مع العلم أن الحقائق العلمية ليست ثابتة،بل هي حقائق بلغت درجة عالية من الصدق.
و في هدا المجال، لابد ان تشير الى قضية منهجية يختلف فيها الباحث في الجوانب النظرية عن الباحث التطبيقي (التجريبي)،حيث ان الاول لا يقتنع بنتائجه حتى يزول عنها كل شك مقبول،وتصل درجة احتمال الصدق فيها إلى أقصى درجة،أما الثاني فيكتفي بأقصى درجات الاحتمال،فإذا وازن بين نتائجه يأخذ أكثرها احتمالا للصدق،بمعنى أنه إذا بحث الاثنان في ظاهرة معينة،وكانت درجة احتمال الخطأ فيها واحد من عشرة(0,1 )،قبلها الباحث التطبيقي،في حين لا يقبلها الباحث النظري إلا إذا انخفضت درجة احتمال الخطأ إلى واحد في المئة(1%).
ولا يغيب عن الذهن، أن الأسلوب العلمي يعتمد بالأساس على الاستقراء الذي يختلف عن الاستنباط والقياس المنطقي،وليس ذلك يعني أن الأسلوب العلمي يغفل أهمية القياس المنطقي،ولكنه حين يصل إلى قوانين عامة يستعمل الاستنباط والقياس في تطبيقها على الجزئيات للتثبت من صحتها(أي أن الباحث النظري يبدأ بالجزئيات ليستمد منها القوانين،في حين أن التطبيقي،يبدأ بقضايا عامة ليتوصل منها إلى الحقائق الجزئية)أي يستعمل التفسير التطبيقي الذي يتمثل في تحقيق(أي نفسير)ظاهرة خاصة من نظرية أو قانون أو ظاهرة عامة،كما يستخدم الطريقة الاستنتاجية التي تتمثل في استخلاص قانون أو نظرية أو ظاهرة عامة من مجموعة ظواهر خاصة.
ومهما يكن،فإن الأسلوب العلمي يتضمن عمليتين مترابطتين هما:الملاحظة،والوصف،فإذا كان العلم يرمي إلى التعبير عن العلاقات القائمة بين الظواهر المختلفة،فهذا التعبير في أساسه وصفي،وإذا كان هذا التعبير يمثل الوقائع المرتبطة بالظاهرة،فلا بد أن يعتمد على الملاحظة،ويختلف الوصف العلمي عن الوصف العادي،في أنه لا يعتمد على البلاغة اللغوية، وإنما هو بالاساس وصف كمي،ذلك أن الباحث عندما يقيس النواحي المختلفة في ظاهرة أو أكثر،فإن هذا القياس ليس إلا وصفا كميا،يقوم على الوسائل الإحصائية في اختزال مجموعة كبيرة من البيانات إلى مجموعة بسيطة من الأرقام والمصطلحات الإحصائية.
أما الملاحظة العلمية،فهي الملاحظة التي تستعين بالمقاييس المختلفة،وتقوم على أساس ترتيب الظروف ترتيبا مقصودا ومعينا،بحيث يمكن ملاحظتها بطريقة موضوعية،والملاحظة تتميز بالتكرار،وللتكرار أهمية كبيرة من حيث الدقة العلمية،فهو يساعد على تحديد العناصر الأساسية في الموقف المطلوب دراسته،وتحرك العناصر التي تكون وليدة الصدفة،كما أن التكرار يظل ضروريا للتأكد من صحة الملاحظة،فقد يخطئ الباحث نتيجة الصدفة أو لتدخل العوامل الذاتية،مثل الأخطاء التي تنجم عن الاختلاف في دقة الحواس والصفات الذاتية للباحث،كالمثابرة وقوة الملاحظة.